هي موسيقى تبلورت من صرخة ألم العبيد الجماعية في أمريكا حتى اندلاع حربها الأهلية وصرختهم الجديدة مع هضم حقوقهم المدنية بعدها. الموسيقى التي حملها السود من مواطنهم في غرب أفريقيا ووسطها إلى عبوديتهم كانت هي النصف الباقي من العمادين اللذين تقوم عليهما الثقافة الأفريقية السوداءالموسيقى التي حملها السود من مواطنهم في غرب أفريقيا ووسطها إلى عبوديتهم كانت هي النصف الباقي من العمادين اللذين تقوم عليهما الثقافة الأفريقية السوداء. أما الثاني فهو “الموروث الشفاهي” المتناقل جيلاً عن جيل والذي كان في ذلك الوقت يقوم مقام التعليم وينير للأجيال المتعاقبة تاريخهم وجغرافيتهم وقيمهم الفردية والمجتمعية ويمنحهم انتماءهم وهويتهم لم يكن الافريقي – قبل تهافت القوى الاستعمارية على مواطنه – حقا بحاجة إلى نظام التعليم الغربي القائم على القراءة والكتابة، لأن عماديْ مجتمعه – الموروث الشفاهي والموسيقى – لم يستدعيا ذلك وعندما اختطفت العبودية الأفريقي الى أرض تبعد عن وطنه بمقدار محيط، فقد حريته وأهله ومجتمعه ونظام تعليمه ممثلا في موروثه الشفاهي الجمعي، وحُرم في الوقت نفسه من تعلم القراءة والكتابة في المجتمع الجديد. وكان الغرض هنا أن يعيش المسترق في الظلمات بلا أمل في استنارة من المحتم أن تقوده إلى التمرد على مصيره وسيّده. بل ان حظر التعليم على العبيد بلغ حد الإعدام لمن سولت له نفسه تعلم القراءة والكتابة لكن لا شيء يعيش في الفراغ، والإنسان تحديدا لا يستطيع العيش في فراغ ثقافي اجتماعي. فتعين على العبيد، تاليا، أن يخلقوا من ركام حياتهم في الشقاء ثقافتهم الخاصة. ولكي لا يدمر الأسياد هذه الثقافة باعتبارها خطرا على أهم مصادر رزقهم، ركن العبيد إلى الكلام المقفى المنغّم… بعبارة أخرى، الأغنية التي لا تقتل ذبابة هكذا صار الحداء هو الرابط الباقي الوحيد بين المسترقّين وعالمهم القديم الحر ووسيلتهم الوحيدة أيضا للتعبير عن أسوأ محنة يمكن أن تسقط على رأس بشر لكن هل حقا أن الأغنية من الضعف بحيث لا تقتل ذبابة؟ أم أن بوسع المغني أن يحمّل باطنها بما أراد حتى تصبح شيفرة فيها العلقم والعسل والثلج والنار والداء والدواء، بينما يبقى ظاهرها، الذي تراه عين السيّد، مجرد أغنية تعين العبد على ابتلاع مصيره؟
أول ما استعان به العبيد هو الإيقاع. وربما كان معلوما أن القبائل الأفريقية، على مدى تاريخها، خلقت من الإيقاع ما يتعدى وظيفته التقليدية المعروفة، إذ أحالته وسيلة للتخاطب التلغرافي. فصار قرع الطبل بشكل معين يحمل رسالة محددة لأهل القرية أو للقرية المجاورة. وصار ثمة قرع معين لكل مناسبة: لعرس… لمولود جديد… لمرض… لوفاة… لمقدم… لوداع… لتحذير من خطر مقبل… وهكذا دواليك، حتى أن الطبل المستخدم للتواصل بهذا النحو سُمي “الطبل الناطق” ووفقا للعديد من المؤرخين فقد كان الطبل الأفريقي وسيلة أساسية في معظم حركات التمرد الأولى (لأن في الإيقاع شيفرة يفهمها الأسود ويغيب معناها بالكامل عن سيّده الأبيض). ولهذا حُظر الطبل نفسه على العبيد. فكان طبيعيا أن يلجأوا إلى وسيلة أخرى لتبادل الرسائل في ما بينهم باستخدام كل مما من شأنه أن يخلق إيقاعا: من التصفيق أو النقر على قطعة خشب أو صفيح مرورا بنقر ملعقتين وصولا إلى تعلّم الآلات الموسيقية الغربية نفسها هذا التشفير انتقل إلى أغاني العمل في مزارع القطن والتبغ وغيرها وأيضا إلى الأهازيج وأغاني الحب الحزينة ولاحقا الترانيم الكنسية (عندما فرض على العبد اعتناق المسيحية بدلا عن دياناتهم الأفريقية القديمة)… وكل هذا محمّل بالرمز والإشارة والاستعارة اللغوية بحيث أمكن للباطن أن يكون على عكس الظاهر بالكامل الواقع أن لجوء العبيد لموسيقى خاصة بهم كان في حد ذاته شكلا من التمرد والتمسك بأهداب هويتهم المفقودة مرة وإلى الأبد. وهناك بحث موجز وجيد في هذا الموضوع، بعنوان “الموسيقى الآفروأمريكية كحالة تمرد: من أغاني العبيد إلى الهيب هوب”، أعدته ميغان سوليفان من جامعة كورنيل الأمريكية، ويتناول هذا الأمر بنحو أكثر تفصيلا