تتميز الموسيقى عن سائر الفنون بأنها لا تُصوِّر أو تقلِّد شيئًا. فبينما نجد الرسم فنًّا تصويريًّا، والنحتَ له صلة بتصوير الواقع الخارجي عن طريق أبعاده الثلاثة، والأدبَ يمثِّل الواقع عن طريق الرموز اللغوية؛ فإن الموسيقى لا تُقلِّد ولا تمثِّل شيئًا، وهي في هذا نمط فني مستقلٌّ بذاته على أن قولنا هذا ينطبق إذا شئنا الدِّقةَ على الأطوار القديمة للفنون الأخرى أكثرَ مما ينطبق على طَوْرها الحاليِّ؛ ذلك لأن الرسم والنحت — بل بعض مدارس الأدب تنزع في اتجاهاتها الحديثة إلى التخلِّي عن مهمة التصوير والتقليد، وتكتفي بأن توحيَ بمعانٍ معينة، دون أن نجد بين العمل الفني وبين الواقع الذي يمثله علاقةَ مُحاكاة مباشِرة. ونستطيع أن نقول: إن مثل هذا الاتجاه إنما هو تقريب للشُّقَّة بين الموسيقى وبين سائر الفنون، ولكنه بينما يتخذ صفة التطور الحديث في هذه الفنون، نراه طبيعة أصيلة في الموسيقى من أول عهدها. أما إذا قيل: إن الموسيقى تسعى في بعض الأحيان إلى تقليد أصوات الطبيعة، ففي وُسْعنا أن نرد على ذلك بأن هذا التقليد — كما هو الحال في تصوير أصوات العواصف أو الرياح في كثير من القطع الموسيقية ذات الموضوع — هو في واقع الأمر إيحاء بعناصر الطبيعة هذه، وليس تقليدًا لها؛ إذ إن الأصواتَ الطبيعية — كما هو معروف — ليست موسيقية؛ لعدم انتظام ذبذباتها، فمن المحال أن تقلدها الموسيقى مباشرة، بل هي تُهذِّبها وتَصقُلها، ثم توحي بها من بعيد، ولا يتيسر لها أن تقلد إلا أصواتًا طبيعية بسيطة في أحوال نادرة، كما في الحركة الثانية لسيمفونية بيتهوفن السادسة؛ حيث تقلِّد أصواتَ بعض الطيور على سبيل الحِلْية، لا رغبةً في التقليد المباشر ذاته.
وهذه المسألة الأخيرة تؤدي بنا إلى الصفة الثانية للموسيقى؛ فقد قلنا: إن أصوات الطبيعة لها ذبذبات غيرُ منتظِمة، وإنها تبعًا لذلك أصواتٌ غير موسيقية، ومعنى ذلك أن المادة التي يستخدمها الفن الموسيقيُّ، ويَبني عليها تركيباتِه المعقَّدة — وأعني بها الأصواتَ الموسيقية المفردة والأنغام — لا تُستمَد من الطبيعة مباشرة، وإنما هي مادة لا بد لها من وسائلَ مصنوعة، هي الآلات الموسيقية التي تَصقُل الأصواتَ وتنظِّم ذبذباتها، أو الغناء المدرَّب الذي يختلف كلَّ الاختلاف عن أصوات الكلام أو الصياح المعتاد. ونستطيع أن نقرب هذه الفكرة إلى الأذهان إذا أشرنا إلى استحالة تقليد الآلات الموسيقية لأصوات الكلام الإنساني؛ إذ إن انتظام ذبذبات الأصوات الصادرة عن هذه الآلات يَحول دون ذلك. وفي هذه الصفة تختلف الموسيقى اختلافًا واضحًا عن سائر الفنون؛ فالرسم يستمد مادته، وهي الألوان والخطوط، من الطبيعة مباشرة، أو هو يجد فيها نظيرًا لهذه المادة، كذلك الحال في الكتل التي يستخدمها فن النحت، والكلمات التي يستخلصها الأدب من الحديث البشري المعتاد
ولما كانت مادة الفن الموسيقيِّ لا تُستخلَص مباشرة من أي مصدر سوى الوسائل التي أُعِدَّت لأجل التعبير عن هذا الفن، أي: الآلات أو الغناء المدرَّب؛ فقد بلغ هذا الفن حدًّا من الاستقلالِ جعل له كِيانًا قائمًا بذاته، ويستحيل أن يُرَدَّ إلى غيره. فبينما نجد الشعر مثلًا قابلًا — في معانيه على الأقل — لأنْ يُفهَم إذا تُرجِم إلى لغة أخرى، هي لغة النثر، وبينما نجد الفنون المقلِّدة تُفهَم بالرجوع إلى الأصول التي تُقلِّدها؛ نجد الموسيقى لا تَقبل أن تُترجَم إلى أية لغة أخرى؛ فتجربة الموسيقى تجربة لا نظير لها، وتذوُّقها يتم عن طريق عملية فريدة لا تُفهَم إلا من خلال سياقها الداخلي وحده. والانفعال الذي تثيره الموسيقى يستحيل أن يُعبَّر عنه بلغة أخرى، أو بوسيلة أخرى من وسائل التعبير، ولا يمكن تصوُّره إلا بسماع هذه الموسيقى ذاتِها. ومن هنا قيل: إن الموسيقى لغة مستقلة، مكتفية بذاتها.
ولكن هل الاستقلال هو الصفة الوحيدة التي يتميَّز بها الفن الموسيقي؟ الحق أن الموسيقى تنفرد عن سائر الفنون بصفتين أساسيتين: صفة العمومية، والذاتية
أما العمومية، فترجع إلى ما تبيَّناه في الفن الموسيقي من استقلال واكتفاء ذاتي. فلما كانت لغة الموسيقى لا ترتبط بموضوعاتها أيَّ ارتباطٍ مباشر، ولما كانت لا تستمد عناصرها من الطبيعة مباشرة، بل تخلقها في مجالها الخاص؛ فقد استحال على الموسيقى أن تقدم وصفًا مباشرًا لأي موضوع خاص، وإنما تصور دائمًا انفعالاتٍ وأحاسيسَ عامة. ومهما حاول المرء أن يأتيَ بروابط بين المؤلفات الموسيقية وبين موضوعات معينة، فلا بد أن يعترف بأن الموسيقى لا تصور في هذه الموضوعات جوانبها الجزئية، وإنما تعبر عن الأوجه العامة فيها. والذي لا شك فيه أن الفنون الأخرى أقدرُ على تصوير الخصوصيات والجزئيات من الموسيقى. وإذا كان العمل الفني السليم — سواء أكان قصيدة أم لوحة أم تمثالًا — قادرًا على أن ينقلنا من موضوعه الجزئي المباشر إلى الموضوع العام الذي تندرج تحته كلُّ الجزئيات؛ فلا شك في أن هذا الانتقال يتم عن طريق قدرة تذوُّقية خاصةٍ لا تتوافر إلا لمن اكتسب خبرة وفَهمًا عميقًا لطبيعة العمل الفني في هذه المجالات. أما في حالة الموسيقى، فالتأثير المباشر لها هو الأحاسيس العامة، ومن المحال حين تسمع قطعة تثير فيك معنى الحزن أو الحماسة أن تقول: إن هذا حزن شخص معين، أو تحمس إلى نوع معين من الأفعال، وإنما الذي نُحِسُّ به مباشرةً هو شعور عام بالحزن أو بالحماسة، لا يمكن تخصيصه إلا فيما بعد، وبطرق ووسائل متكلَّفة
وأما صفة الذاتية، فترجع إلى ما بين الموسيقى وبين الزمان من ارتباط وثيق؛ ذلك لأن فنون النحت والتصوير فنون مكانية، تُخلَق في بُعدَين؛ كالتصوير، أو ثلاثة أبعاد؛ كالنحت، وتُتَذوَّق مكانيًّا أيضًا؛ أعني أن أعمالها الفنية تُدرَك في لمحة واحدة، ولا تأثير لمعنى الزمان في إدراكها إلا من حيث إنه يَجْلو بعض غوامض هذا الإدراك السريع الأول. أما الموسيقى، فهي فن زماني بالمعنى الصحيح: أعني أن أداءها يتم خلال التعاقب الزماني، ولا تُتصوَّر أنغامها أو إيقاعها أو مجموعاتها التوافقية إلا متتالية. وبعبارة أخرى، فالموسيقى تسير في خط زماني رأسي، أما فنون التصوير والنحت فتَتبع مسارًا مكانيًّا أفقيًّا. ولا شك في أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى طبيعة الوسائط الحسية التي تُنقَل بها هذه الفنون؛ فالموسيقى تُنقَل بالأذن، وهي حاسة تعتمد على التعاقب الزماني، أما الفنون التصويرية والتشكيلية فتُنقَل بالعين، وهي حاسة مكانية تلاحِظ الأبعاد الخارجية وتُدرِكها إدراكًا مباشرًا.
ولقد ربط الفلاسفة منذ عهد غير قريب بين الزمان وبين الذاتية؛ ذلك لأن إحساساتنا التي تُصاغ في قالَبٍ مكاني، كالمرئيات والملموسات، هي إحساسات موضوعية، ندركها مباشرة بوصفها خارجةً عنا، مستقلَّة عن ذاتنا، بل إن هذه الإحساساتِ هي أساس اعتقادنا بوجود عالم خارجي. أما الإحساسات التي تُصاغ في قالَب زماني، كالمسموعات، فهي بطبيعتها ذاتية، أعني أنها تعتمد على الذات التي تتلقَّاها اعتمادًا أساسيًّا، وتبعث فينا شعورًا بأنها صادرة عن أعماقنا الباطنة. وليس أدَلَّ على ذلك من أن التفكير بدوره — وهو عملية باطنة تمامًا — يتخذ قالَبًا زمانيًّا، يتمثل في تعاقب الأفكار بعضها وراء بعض، ولكنه يستحيل أن يتخذ قالبًا مكانيًّا، أي: أنْ تُشاهَد الأفكار فيه خارجيًّا! فالموسيقى — على هذا الأساس — ألصق الفنون بأعماق الذات الإنسانية.
من أجل هذه الصفات الفريدة؛ كان للموسيقى مكانةٌ خاصة لدى المفكرين والفلاسفة، وعدَّها بعضُهم عنصرًا من عناصرِ فَهمه للكون بأسره. ودارس الفلسفة لا يغيب عن ذهنه رأي قديم يتمثل فيه قولنا هذا أصدقَ تمثيل؛ وأعني به رأى الفيثاغوريين، الذين فسروا الكون كله بأنه عَددٌ ونغم. وإذا كانت عبارتهم هذه عبارةً مجازية، تُفسَّر بأنها إشارة إلى أن للكون وجهًا كميًّا، هو العدد، ووجهًا كيفيًّا، هو ما عبروا عنه بكلمة النغم، فلا ينبغي أن ننسى أن استخدام الرمز ذاته أمر له دلالته العميقة، وأن تعبيرهم عن كل الاختلافات والتنوعات الكيفية الهائلة في الكون بكلمة النغم، يدل على مدى اتساع مدلول الأنغام عندهم، ومدى ارتباطها بالطبيعة العامة للكون في نظرهم